البعد الثقافي-المثالي للثورة: قراءة في الحراك السياسي في الجولان المحتل
مادة اثنوغرافية تمهيدية:
"إذا كانت رجولتك مشروطة بغشاء بكارتي فهي حتما معدومة بزواله (الجولان المباع/المحتل 24-8-2012)"، هكذا رفعت الناشطات يافطة في تجمع أسبوعي تضامني في مجدل شمس، لنصرة الثورة السورية. انتشرت الصورة على الفيسبوك وفي مواقع إنترنت محلية وأثارت موجة كبيرة من "القلقلة" في البلدة. وعلى إحدى صفحات الفيسبوك علق مجهول: "...الصورة جعلتني أشعر بأنّ عصر الانحطاط قد جاء وأن هؤلاء الأشخاص عندما تتمعن وتفكر من هم تلاحظ أنهم من نفس الطينة. ها قد وصلنا إلى مرحلة تسمح الرجال للنساء برفع لافتات وقحة فإذا باعوا وطنهم هانت عليهم بناتهم. لقد طفح الكيل لأنهم يعكسون صورة غير جيدة عن بلدنا واعتقد أن مرض العرعور وصل إلينا." وبالطبع هناك من شوه الصورة وبخّ عليها بمساعدة فرشاة برنامج الباينتر على ويندوز: "جماعة غشاء البكارة يستنكرون تفجير جرمانا"، ونشرها على صفحات الفيسبوك المحلية، وهناك من رد هذه الاعتداءات بالنقد اللاذع والنافي في آن معاً.
هل تنهار/تتفكك سوريا؟
على هامش رسالة الكترونية مهنية، تساءل زميل من أمريكا—وهو باحث معروف في تاريخ سوريا العثمانية من أصل عربي—عن "كيفية الأمور في مجدل شمس وسوريا تنهار/تتفكك" (I wonder how things in Majdal Shams are with Syria falling apart?). وفي الحقيقة، وعلى الرغم من الدمار والتفكك والحرب الطاحنة التي يشنها النظام ضد قوى الثورة وحاضناتها الأهلية، صدمتني الجملة التقريرية في السؤال، أن سوريا تنهار! وكأني لا اصدق أن سوريا تنهار، فأكدت له ان الناس لا يعتقدون أن سوريا تنهار وأن كل طرف متيقن أنه سينتصر وسيكون انتصاره حفظاً لسوريا من الانهيار، فواساني أو استوعبني بابداء التفهم، والقول إنه من الجيد أن يسمع أن الناس ترى أملاً في نهاية الطريق.
فالفاجعة فيما يبدو، بنظر زميلي المذكور، هي أنّ سوريا-المخيلة قوية ومنيعة لدى الطرفين، وأنّ كل طرف على يقين مطلق من أنه سيحفظ سوريا من الطرف الآخر ومن الانهيار، لكن هذا التمسك بالمثال المطلق ونفي الآخر، لا يفشل في منع المأساة فحسب، بل يدفع نحوها حتماً على نمط التراجيديا اليونانية الكلاسيكية!
لا أقول هذا بالطبع لأساوي بين الأطراف المتنازعة، فالتراجيدية موقف وأداة تستعل أو لا بحسب السياق، وليست حقيقة مطلقة بذاتها. ولا أقول هذا لأحدد ماهية أداث الثورة أقيمها أو ما شباه، رغم أن موقفي منها سيكون واضحاً للقارىء. بل بكلّ بساطة أستخدم الثورة منهجياً كعدسة—لها ميزات خاصة ودقة خاصة—لتبيان جوانب من الحياة السياسية-الاجتماعية في الجولان المحتل. وأعتقد أساساً أنّ الثورة لا يمكن أن تفهم إلا إذا فهمت كفكرة مثالية ذات أبعاد وأثار متنوعة في السياق المحلي الذي تتفاعل معه. وحال الجولان المحتل ممتاز لتبيان هذه النقطة. الجولانيون ككل السوريين اليوم مضطلعون في انقسام عميق وخطير، لكنهم بخلاف باقي السوريين لا يقعون مباشرة تحت سطوة العنف ولا يتعرضون للموت أو خطر الموت أو التواطؤ المباشر في القتل رغم توتر الأجواء بينهم إلى دجة غير مسبوقة في تاريخهم المحلي. إنهم على بعد من الثورة، بُعد جسدي فيزيائي، لكنهم في صلبها وحيثياتها على صعيد الوجدان والتأثر السياسي، مما يؤكد الطبيعة "المثالية" للثورة – الثورة كفكرة، كمفهوم اصطلاحي. باقي أن نرى كيف الفكرة-المصطلح تكتسب أبعاداً واستعمالات ودلالات مختلفة في السياقات المختلفة.
جمعية جولانية للنساء
إن المادة الاثنوغرافية المعروضة أعلاه تكشف هذا الأمر. المادة من نشاط أسبوعي يعقده مناصرو الثورة في الجولان المحتل مساء كل يوم جمعة، ويرفعون فيه اسم الجمعة كما تختاره التنسيقيات المحلية في الوطن، معتمدين مبدأ صاغوه منذ الأيام الأولى للثورة، وهو أن الحراك في الجولان هو صدى للحراك في الوطن (انظر ملحق رقم 1). لكن الجمعة المذكورة أعلاه، خرجت عن هذا التقليد، فقد قررت مجموعة من الناشطات الشابات إعادة ما اعتبرته جوهرًا للثورة/الحرية الحقيقة – من وجهة نظر نسوية – فرفعوا يافطات "اغتصبوك لأن الثورة أنثى"، ويافطات أخرى تهاجم السيطرة الاجتماعية للرجل على المرأة ومفاهيم الشرف التقليدية المحافظ، باعتبار أن الحرية لا تتجزأ. والملفت في الأمر هو أنّ التعليقات المعادية لهذا الخطاب النسوي والمعادية للثورة في آن معا، رأت ان هذا الخطاب النسوي فاسد كفساد "الثورة" تماماً وأنه من ذات الطبيعة. إذن لم ير المعادون في الخروج على تقليد الجُمَع هذا (ومثل هذه الشعارت النسوية لم نرها مطلقاً في الحراك في سوريا حتى الآن ) أي شيء ذي دلالة خاصة، بل إن أحد المنتقدين رأى في تلك اليافطات جزء طبيعياً من "مرض العرعور" دون تمييز بين حدث وآخر أو موقف وأخر في الثورة! هذه الأمور تدلّ برأيي على أن الثورة هي فكرة تتفاعل بدلالات مختلفة في النسيج والعلاقات والشبكات الاجتماعية المختلفة (والتي تشكل شبكات التواصل الاجتماعي على الانترنت بعداً مندمجاً فيها)، من خلال أنماط جديدة-قديمة من الحراك السياسي والأفعال، يجب أن تدرس وتحلل لا أن تفترض سلفاً.
وقد يفسر لنا هذا الأمر مفارقة عميقة في الواقع الجولاني لا بد من التطرق إليها في هذا السياق، وهي أنه على الرغم من أن الطرفين يستخدمان "إسرائيل" في خطابهما، ويرجعان إليها جذر المأساة (كجزء من المؤامرة العالمية مع أو ضد النظام، بحسب موقف المرء )، إلا أن احداً من الطرفين لا يتصادم معها مباشرة (سوى في حالة نادرة، وهي حدث محاولة عبور المتظاهرين الفلسطينيين إلى مجدل شمس اختراقاً للأسلاك الشائكة وقوة الاحتلال، في يوم النكسة عام 2011، إذ رشق الشباب الجولانيون قوات الاحتلال بالحجارة واعتقل منهم مجموعة من النشطاء منهم المعارضين ومنهم الموالين معاً). إن تفسير انحسار المواجهة المباشرة مع الاحتلال يحتاج إلى مقال منفرد، لكن في جميع الأحوال يمكن استخلاص عبرة محددة من هذا الأمر، وهي أنّ الصدام بين القوى الوطنية اليوم والصدام في سوريا حدثٌ داخليّ في العمق، يخصّ شبكات العلاقات القائمة داخل المجتمع الجولاني أو السوري عموماً، وهذا لا يمكن فهمه من منظور نظرية المؤامرة. إن الثورة كفكرة تؤثر في هذه العلاقات/النسيج الاجتماعي بشكل استثنائي، والنتائج التي تخرج لا تكون من طبيعة أحداث الثورة وحدها، بل من طبيعة تلك العلاقات أيضا. وهذا هو مقصدي بالتحديد من استخدام الثورة كعدسة لرؤية ديناميات المجتمع، كمنظور، أي أنّه يمكن أن نرى في سياق معين تفاعلت معه الثورة كفكرة، نتائج تدلّ على ذلك السياق وتوضّحه.
محافظة اجتماعية ومحافظة سياسية
في العام 1982 أغلقت إسرائيل معبر القنيطرة أمام الطلاب الجامعيين الجولانيين الذين التحقوا بجامعة دمشق، تطبيقاً منها لقانون الضم ومحاولة في سلخ الجولانيين عن وطنهم الأم ومعاقبتهم على رفض مشروعها. لكن الجولانيين ردّوا بطريقة خلاقة بمساعدة الحزب الشيوعي الإسرائيلي ولاحقاً من خلال العلاقات السورية-الروسية في ترتيب منح تعليمية بديلة على نطاق أوسع في الاتحاد السوفييتي سابقاً. من بين عشرات الطلاب الذين التحقوا بالجامعات السوفياتية التحقت مجموعة صغيرة من الطالبات. في حينه فرض رجال الدين الحرم الديني والقطيعة الاجتماعية على أهاليهن وحاربوا المسألة بكل ما أوتوا من قوة معنوية في المجتمع. لكن هذا لم يمنع الشابات من الاستمرار في عملية التحرر والالتحاق بالجامعات، والإسرائيلية منها، وبعد عام 1991، وعلى نطاق واسع بجامعة دمشق بمختلف معاهدها وكلياتها. التعليم العالي، من جهة، واستيعاب سوق العمل لمهن عديدة من جهة أخرى، ساهما في إحداث ثورة حقيقة في واقع المرأة الجولانية الشابة—الأمر الذي أثار وما يزال أعمق مشاعر القلق والامتعاض لدى المجتمع المحافظ، كما المشاعر المزدوجة عند قطاعات واسعة من المجتمع. لا شك أن حدث يوم الجمعة 24 آب 2012 من أشد التعبيرات المباشرة عن هذا التحول، بل يمكن اعتباره أول حدث يتم فيه التعبير عن موقف نسوي جذري من المواطنة وقضايا الأمة الأوسع. فهل من رابط بين المحافظة الاجتماعية والمحافظة السياسية، أو الثورة الاجتماعية والثورة السياسية؟
لا اعتقد أنّه بإمكاننا الإجابة عن هذا السؤال ببساطة، كما فعل أخيراً صحافي هاو زار المنطقة؛ إذ وصف رجال الدين بالموالين والعلمانيين بالمعارضين. فهناك قطاعات واسعة "حداثية" وغير محافظة اجتماعياً لكن المسألة السياسية لا تعنيها. وعلى كل حال لا يمكن التقدم هنا بدون تحديد معنى واضح ومنهجي لكملة "محافظة". فما المقصود بها؟ وإذا كانت المحافظة الاجتماعية سهلة التعريف نوعا ما، كما في نقاش علاقات النوع الاجتماعي أعلاه، فما هي المحافظة السياسية؟ وهل المحافظة معناها فقط الالتزام بما هو قائم وموروث وعدم السعي إلى التغيير باعتباره—أي الالتزام بالقائم—قيمة بحد ذاته؟ هل يمكن أن يفسّر هذا لماذا تصبح المحافظة السياسية رديفاً للمحافظة الاجتماعية، والثورة السياسية رديفاً للثورة الاجتماعية؟ سأقبل مؤقتا هذا التعريف، لكن مرة أخرى يجب أخذ الحيطة من ارجاع المواقف السياسية إلى التجربة/الموقف الاجتماعي ارجاعاً كلياً وتلقائياً. ادعائي هو أن الثورة كفكرة تدمير للقديم وبناء للجديد، تستطيع أن تتولد على نطاق نسبي وجزئي وانتقائي وليس بالضرورة كلي. أي أنها تستطيع أن تتولد وتفعل في بعض المواقف والملفات دون أخرى، وكذلك المحافظة. لكن الحيطة لا تعني تدمير العلاقة بينهما برمّتها، أي أنّها لا تعني عدم وجود إمكانية للربط القوي بين الموقف السياسي والموقف الاجتماعي.
في هوية الجولان
أعود مرة أخرى إلى بداية الثمنينات، لقراءة وثيقة مؤسِّسة في التاريخ السياسي للجولان. هي سياسية بامتياز، تتعلق بهوية الجولان، الأرض والإنسان، والموقف من الاستعمار والموقف من الأفراد الذين يضعفون أمام إغراءات أو ضغوطات الاحتلال وقبلوا الهوية الإسرائيلية (المواطنة). أقصد "الوثيقة الوطنية" من آذار 1981 (أنظر الملحق رقم 2). لقد قرأ المحللون هذه الوثيقة إلى الآن من منظور محدد: دورها في مواجهة سياسة الأسرلة وفرض الحرم الديني والاجتماعي على من يقبل بالمواطنة الإسرائيلية ويعترف بالاحتلال كواقع "شرعي" أو يحاول تشويه الموقف الوطني للجولانيين. لكن الوثيقة مقدمة تقوم بأكثر من ذلك، إذ تبدأ من تعريف ماهية للوطن والانتماء. وفي هذا التعريف أجد مادة "اجتماعية-ثقافية" هامة قد تمّ اهمالها في التحليل السياسي رغم أنها كانت مولّدة—في وعي الفاعلين التاريخيين أنفسهم—للموقف السياسي. الوثيقة تتحدث عن "قدوم" من أصلاب أجداد وامتزاج الدّم بالأرض. وفي ذات الوقت تتحدث عن مواطنة سورية أصيلة. المخيلة باعتقادي واضحة هنا، هي مخيلة سوريا اليوم كسلالة موسعة لجميع السلالات، كعائلات-أعراق كلها تعود إلى ذات الأصل الواحد وترتبط بهذه الأرض بعينها. إنها أقرب إلى نسخة شعبوية عن مخيلة أنطون سعادة والحزب القومي السوري، عن وحدة الشعب/العرق والأرض، منها إلى مخيلة ساطع الحصري للأمة كوحدة اللغة والتاريخ. الفارق البيّن عن مخيلة أنطون العلمانية هي مكانة الدين الصميمية هنا، في كونه مصدر الأخلاق العليا التي تقضي بصون الأصل والوطن. الأجداد-الدين-الوطن، ثلاث مركبات مختلفة تماماً، لا علاقة أولانية أو منطقية بديهية بينها، أنما فقط علاقة تركيب. فقط من خلال التربية على الحب الصادق، وتهذيب المشاعر والأحاسيس والسلوك يمكن لها أن تتحول إلى مركب بديهي، يحدث في قلب وعقل المرء معاً كشيء أولي غير مركب، أشبه بمفهوم وجداني. لكن مرة أخرى، تبقى المفارقة قائمة: الفكرة لا تفعل بالواقع على نطاق شامل، بل دوما هناك غياب لها وبالتالي نقاط لتفكيكها.
تغيب الفكرة في البعد الزمني، وكذلك في الحيّز، وتنافسها أفكار أخرى. فلو عدنا إلى الوراء في الزمن لاكتشفنا حداثة المركب المذكور (أجداد-دين-وطن)، أي أن أجداد الأمس القريب لم يكن لديهم مخيال المواطنة أو الشعب السوري لأجداد اليوم. مخيلة الوطن السلالية إذن ليست ”التقاليد“ بل تقاليد مولودة جديناً تماماً كالوعي الحداثي بالأمة. لو نظرنا في الحيّز لرأينا فارقاً بين ما يُقال في البيت وبين ما يقال في المكان العام المقدّس وبين ما يقال في المكان العام الدنيوي. وكذلك تغيب فكرة الوطن-السلالة اجتماعيًا، على صعيد الحياة اليومية والخيارات الثقافية والسياسية المتوفرة للناس، فلا يمكن فهم الثقافة والمجتمع وأنماط السلوك أو اشتقاقها انطلاقاً من هذا الوعي بالذات. وهناك بالطبع مشروع إسرائيلي مستمر وعنيد، يروّج إلى فصل الدين واعتباره وحده منظم الأصول والسلالات المتخيلة للدروز (العرق هو في هذه المخيلة: أجداد-دين للمستعمَر، مقابل أجداد-دين-أرض للمستعمِر) فيتحدث عن الدروز كأقلية "قومية" (لكن من نوع القوميات التي لم تتمكن من السيادة السياسية) منفصلة عن العرب ويمكن أن تتحالف مع الجماعة العرقية\\القومية اليهودية. لكن الفكرة/الأفكار المنافسة والمتحدية، الأكثر وعياً بمعايير الحداثة والمدنية، وبمنزلقات تحالفات الشعبوية والاستعمار، من جهة، وتحالفات الشعبوية والاستبداد والنظام الشمولي، من جهة أخرى، هي فكرة الانتماء الحزبي، والانتماء القومي، والانتماء الكوني، والوعي بتاريخية المجتمع والايمان بالتقدم والحرية. فهذه كلها تنافس مفهوم الأصل والجماعة السلالية المتخيلة، وقد ظهرت في الجولان المحتل منذ بداية المواجهة مع الاستعمار الإسرائيلي ولا تزال. ولكن هذه الأفكار – العلمانية الكونية – أيضا تكتسب طابعاً وطنيا بشكل تركيبي وتحتاج إلى عمق شعوري. فالحرية لا تعني بالضرورة انتماء قومياً أو وطنياً، إلا بأثر قرار شعوري وجداني يقوم على المحبة والالتزام بفكرة الارتقاء بالأحاسيس وتهذيبها في إتجاه معين، والتواصل مع الآخرين واكتساب هوية مشتركة وطابع جمعي تشتق منه إحساس الفرد بهويته.
الهويات والديمقراطية
لعل هذا الفهم للهوية والموقف السياسي يساعدنا في بدء بلورة موقف مختلف من مأزق الانقسام الأهلي والوطني دون أن نتخلى عن الثورة، بل مع الدفع نحوها. ربما علينا أن نعترف أن الصدام ليس بين شر مطلق وخير مطلق، بل بين مفاهيم وجدانية مختلفة لماهية الانتماء. لا بد من القبول بوجود اختلاف عميق في الطابع الثقافي للمجتمع ووجود أبعاد سياسية جوهرية له. إن ما يميّز العالم الجنوبي عامة هو أنّ الطابع الثقافي والصراعات التي تدور حوله تؤثر في النظام السياسي للبلدان أكثر بكثير من الدول الصناعية الليبرالية المتقدمة. وهذا واقع الحال لدينا. فالمشاريع الثقافية للأصوليات الدينية والشعبوية تكاد تتعارض جوهرياً مع النظام الديمقراطي، وهي بلا شك سوف تؤثر بشكل وآليات عمل أي نظام ديمقراطي مستقبلي قد ينشأ. وهذا بلا شك مؤلم للمشاريع الثقافية التحررية، لكن هذا الألم جوهري ويجب القبول به، فهو برأيي مرافق لفعل ولادة—وإن كانت مضجرة بالدماء، الفعلية والرمزية—لفكرة التحرر. الصراع القادم للحفاظ على المولود سيكون خطيراً، لكننا بتنا على أرض أكثر صلابة تحت القشرة المتصدعة. هذا هو على الأقل حال أول فعل نسوي سياسي مباشر في الجولان المحتل، وسيكتب له التقدم حتماً طالماً أنه موجود كمفهوم وجداني. وكذلك هو حال الثورة ضد الطغيان والقمع البوليسي المتوحش للأنظمة الشمولية وحال فكرة دحر الاستعمار.
الملحق 1
الوثيقة الوطنية للمواطنين السوريين في مرتفعات الجولان السورية المحتلة
نحن المواطنين السوريين في المرتفعات السورية المحتلة، نرى لزاماً علينا أن نعلن لكل الجهات الرسمية والشعبية في العالم أجمع، ولمنظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها، وللرأي العام العالمي وكذلك الإسرائيلي، ومن أجل الحقيقة والتاريخ، بصراحة ووضوح تامين، عن حقيقة موقفنا من الاحتلال الإسرائيلي ودأبه المستمر على ابتلاع شخصيتنا الوطنية، ومحاولته ضم الهضبة السورية المحتلة حينا، وتطبيق القانوني علينا حيناً آخر، وجرّنا بطرق مختلفة للاندماج بالكيان الإسرائيلي والانصهار في بوتقته، ولتجريدنا من جنسيتنا العربية السورية التي نعتز ونتشرف بالانتساب إليها ولا نريد عنها بديلاً، والتي ورثناها عن أجدادنا الكرام الذين تحدّرنا من أصلابهم وأخذنا عنهم لغتنا العربية التي نتكلمها بكل فخر واعتزاز وليس لنا لغة قومية سواها. وأخذنا عنهم أراضينا العزيزة على قلوبنا وورثناها أباً عن جد منذ وجد الإنسان العربي في هذه البلاد قبل آلاف السنين-أراضينا المجبولة بعرقنا وبدماء أهلنا وأسلافنا. حيث لم يقصّروا يوماً في الذود عنها وتحريرها من كل الغزاة والغاصبين على مر التاريخ. والتي نقطع العهد على أنفسنا أن نبقى ما حيينا أوفياء ومخلصين لما خلفوه لنا منها وأن لا نفرّط منها بشيء منه مهما طال زمن الاحتلال الإسرائيلي، ومهما قويت الضغوط علينا من السلطة المحتلة لإكراهنا أو إغرائنا لسلب جنسيتنا ولو كلفنا ذلك أغلى التضحيات.
وهذا موقف من البديهي والطبيعي جداً أن نقفه. وهو موقف كل شعب يتعرض كله أو جزء منه للاحتلال. وانطلاقاً من شعورنا بالمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقنا تجاه أنفسنا وأبنائنا وأجيالنا القادمة أصدرنا هذه الوثيقة:
هضبة الجولان المحتلة هي جزء لا يتجزأ من سورية العربية.
الجنسية العربية السورية صفة حقيقية ملازمة لنا لا تزول. وهي تنتقل من الآباء إلى الأبناء.
أراضينا هي ملكية مقدسة لأبناء مجتمعنا السوريين المحتلين. وكل مواطن تسوّل له نفسه أن يبيع أو يتنازل أو يتخلّى عن شبر منها للمحتلين الإسرائيليين يقترف جريمة كبرى بحق مجتمعنا، وخيانة وطنية لا تغتفر.
لا نعترف بأي قرار تصدره إسرائيل من أجل ضمّنا للكيان الاسرائيلي ونرفض رفضاً قاطعاً قرارات الحكومة الإسرائيلية الهادفة إلى سلبنا شخصيتنا العربية السورية. لا نعترف بشرعية المجالس المحلية والمذهبية، لكونها عُيّنت من قبل الحكم العسكري الإسرائيلي وتتلقى تعليماتها منه، ورؤساء وأعضاء هذه المجالس لا يمثلوننا بأي حال من الأحوال.
إن الأشخاص الرافضين للاحتلال من خلال مواقفهم الملموسة، والذين هم من كافة قطاعاتنا الاجتماعية، هم الجديرون والمؤهلون للإفصاح عما يختلج في ضمائر ونفوس أبناء مجتمعهم. كل مواطن من هضبة الجولان السورية المحتلة تسول له نفسه استبدال جنسيته بالجنسية الإسرائيلية، يسيء إلى كرامتنا العامة وإلى شرفنا الوطني وإلى انتمائنا القومي وديننا وتقاليدنا، ويعتبر خائناً لبلادنا.
قررنا قراراً لا رجعة فيه وهو: كل من يتجنس بالجنسية الإسرائيلية، أو يخرج عن مضمون هذه الوثيقة، يكون منبوذاً ومطروداً من ديننا ومن نسيجنا الاجتماعي ويحرَّم التعامل معه، أو مشاركته أفراحه وأتراحه أو التزاوج معه- إلى أن يقرّ بذنبه ويرجع عن خطئه، ويطلب السماح من مجتمعه، ويستعيد اعتباره وجنسيته الحقيقية.
لقد اعتمدنا هذه الوثيقة، مستمدين العزم من تراثنا الروحي والقومي والإنساني الأصيل الذي يحضنا على حفظ الإخوان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوفاء العميق للوطن.
جماهير الجولان السوري المحتل
آذار 1981
الملحق 2
بيان لسوريين من الجولان المحتل
“أنتم الصوت ونحن صداه”
يا شعبنا السوري العظيم،
كثيرة هي المحن التي ابتُليَت بها شعوب مشرقنا العربي، الذي عرف شتى أصناف الاحتلال والتفتيت والقهر على أيدي الدخلاء والأغراب، لكن البلاء الأعظم الذي ميّز نصف القرن المنصرم، ممثلاً بأنظمة الجَور والاستعباد كان، مِن غير ريب، الأكثر وطأة ووبالا على أوطاننا وشعوبنا.
إنّ استعراض خطايا الديكتاتوريات العربية وموبقاتها لهو ضرب مِن ضروب العَبث لا أكثر؛ كونها، مِن الأساس، قامت على الفساد والإفساد المنظّمين ضمانا لديمومة سيطرتها على رقاب العباد والبلاد، وما الإجراءات الترقيعية التي تلجأ إليها بين الفينة والأخرى إلا ذرّ للرماد في العيون، فهي أكثر العارفين أن أي مسعى جدّي لإحداث تغيير فعلي في الواقع المعاش لا يعني إلا أمرا واحدا ووحيدا، هو إعدام نفسها لنفسها!
بَغيُ الأنظمة العربية وفجورها وبلطجتها وعنفها الفائض عن كل حدّ، جعل الكثيرين منا يخال أنّ تجرّع الذل صار عند العرب عادة؛ لتأتي ثورة البوعزيزي في تونس وبعدها مصر وما أعقبهما مِن ثورات وانتفاضات في ليبيا واليمن وغير بلد عربي فتقلب الموازين رأسا على عقب، بعد تسلّم الشباب دفة القيادة، مستفيدين مِن توقهم العتيق لحرية لم يعرفوها، ومما وفّرته لهم وسائل الاتصال من قدرة على الانتشار وسرعة الوصول.
وأمام ما تشهده الميادين العربية، مِن ثورات على أنظمة البؤس، التي تمادت في استهتارها بشعوبها، متخطّية كل عُرف ومنطق؛ مع تسجيلها عجزا فاضحا في توفير حدّ أدنى مِن شروط النهوض بشعوبها والعيش الكريم، إن لم نقل إنّ همّها، مِن الأساس، كان إقصاء المواطنين عن حقهم في تقرير مصيرهم والمشاركة في صنع حاضرهم ومستقبلهم؛ وأمام ما نشهده مِن إجرام وإرهاب وحقد تمارسه هذه الأنظمة بحق شعوبها، نعلن على رؤوس الأشهاد، انحيازنا الكامل لحق الشعوب في الحرية والعيش الكريم، ورفضنا كافة أشكال الظلم والقهر والإرهاب، كائنا ما كان مصدره.
ولأننا جزء لا يتجزأ مِن وطننا السوري ونسيجه الاجتماعي، لنا ما له وعلينا ما عليه، نعتقد جازمين أن الوضع السوري لا يشكل استثناء عن مثيله العربي، وأنه الأجدر بالحرية ونفض غبار الذل والإرهاب الذي يُمارس بحقه، معلنين أن كل مَن يعتدي على شعبنا السوري، قتلا أو بطشا أو اعتقالا أو تعذيبا أو تشريدا أو نهبا هو بمثابة عدوّ، لا يختلف عن الاحتلال الإسرائيلي قيد أنمله، كائنا مَن كان هذا الأحد!
وجودنا تحت الاحتلال الإسرائيلي ليس معناه بأي حال وقوفنا على الحياد. إننا في مطلق الأحوال امتداد طبيعي وحتمي لشعبنا السوري، ولشرائح واسعة منه، تعتبر أنّ استمرار الوضع الراهن وتكريسه أمرا واقعا، كان له كل الأثر في الوصول إلى الحضيض الذي نحن فيه، وأنّ إسرائيل كانت المستفيد الأكبر من كل ذلك.
إن واجبنا الوطني والإنساني والأخلاقي يحتم علينا الانحياز الكامل لشعبنا ضد جلاديه، وأن نكون صدىً صدّاحا لصوته، مع وضع أنفسنا بتصرّفه وتقديم كل ما عزّ في سبيل حريته وكرامته وعيشه الكريم. فلم يعد مقبولا، بأي بشكل، التصرف بالوطن ومقدراته على أنهما مشاع ومزارع خاصة، يعيث بهما الفاسدون، ويتوارثها الأبناء عن الآباء.
وإذ نتخذ هذا الموقف، فإنه ليس إلا تعبيرا صادقا عن التصاقنا بهموم شعبنا السوري وتطلعاته المشروعة نحو استعادة حريته ومكانته التي تليق به بين الأمم، وما هو إلا التزام بروح “وثيقتنا الوطنية” وما تمليه علينا ضمائرنا وأخلاقنا وارتباطنا العميق بوطننا السوري، غير مدّعين أي صفة تمثيلية لأيّ كان، إلا لأنفسنا.
نعلم يقينا ما قد تشكّل هذه المبادرة لسكان يعيشون في أرض محتلة مِن حساسية؛ لكن ثقتنا مطلقة بحصانتنا الوطنية وموقفنا الواضح الرافض للاحتلال الإسرائيلي وأبعاد المشروع الصهيوني على أرضنا. فالنظام ليس هو الوطن بأي حال؛ حتى لو حاول تصوير نفسه على هذا النحو. إن منبع تحركنا ينطلق مِن مسؤولية تاريخية وقناعة أكيدة أنّ “العيب على مِن يصنع العيب” وليس على مَن ينتقده أو ينفض الغبار عنه! نحن صمدنا في أرضنا وقاومنا محتلنا بصدورنا العارية، دافعين الغالي والنفيس للمحافظة عليها سوريّة كما ورثناها عن آبائنا وأجدادنا، لكن إبقاءنا تحت الاحتلال ليس معناه أن نكون شياطين خُرس على ما يمارسه النظام السوري بحقّ شعبنا مِن انتهاكات. فالاحتلال والقهر هنا صنو للذل والبطش والقمع هناك، وازدواجية الأحكام والمعايير ليست مِن شيمنا وأخلاقنا بشيء.
إن التلطّي خلف أنظمة الطوارئ وتأبيدها بحجة المقاومة والممانعة والصراع مع العدو، أثبتت زيفها وعجزها عن استرجاع حبة واحدة مِن تراب الجولان، مبيحة سماء الوطن وبحره وبرّه للعدو يجوبه في أربع جهاته، ومشرعة أبوابه لشتى أنواع الفساد والإفساد والنهب المنظم! ويقيننا، أنّ تحرير الجولان لن يكون ممكنا إلا بتحرير الوطن مِن قيده. فشعب محتل، مقموع ومقهور داخل وطنه لن يقوى على تحرير أرضه مِن أعدائه!
مِن هنا، فإننا نضم صوتنا إلى صوت شعبنا في الداخل السوري، متوجهين للنظام بأوضح العبارات، أن يبادر اليوم قبل الغد إلى إعادة الحق إلى أصحابه، والمباشرة برفع قانون الطوارئ وإطلاق الحرّيات العامة وسراح جميع معتلقي الرأي ورفع القيود عن الإعلام، وإلغاء المحاكم الاستثنائية ونتائج الاستطلاع الاستثنائي الجائر لعام 1962، تمهيدا لانتقال سلمي وهادئ للسلطة، يجنّب الوطن ما لا تُحمد عقباه.
سياسات مدّ الأيدي مِن قبل الشعب وفصائل المعارضة الوطنية في الداخل التي قابلها النظام بالاعتقال والبطش والترهيب وبث بذور الفرقة بين مكوّنات المجتمع السوري، تقطع كل الشك بكل اليقين أن النظام غير معني إلا بإبقاء إحكامه على السلطة وتسلطه على رقاب العباد. فحكم الشعب عبر أجهزة الأمن تارة والالتفاف على مطالبه بمرسوم هنا أو رشوة هناك تارة أخرى، لن يوقفا سيرورة التغيير وحركة التاريخ.
وبما أنّ ردّ النظام على احتجاجات شعبنا السلمية ومطالبه المشروعة جاء دمويا على نحو ما شهدناه، محوّلا صدور السوريين أهدافا لرصاص اقتُطِع ثمنه مِن جيوبهم ومِن أمام أفواه أطفالهم بحجة محاربة إسرائيل؛ فإننا نعلنها على الملأ، وليسمعها القاصي والداني، أنّ “كل مَن يقتل شعبه خائن”، وأنّ كل نقطة دم سورية تُراق، سوف تكون حجّة على مهرقيها، ولعنة تطاردهم ولو بعد حين.
إنّ قدرنا هو العيش بحرية وكرامة، ومنطق الحياة يؤكد أن الشعب أبقى مِن حكّامه. فوطن حرّ، ديموقراطي وعلماني، يتساوى تحت سقفه الجميع، وليس فيه مكان لجَور ولا ظلم ولا طائفية بغضاء هو ديننا وديدننا، وهو جوابنا الأخير.
عاشت سوريا حرة كريمة لجميع أبنائها
سوريون مِن الجولان المحتل
آذار 2011
[نشرت هذه المقالة للمرة الأولى على مجلة "بدايات" وجدلية تعيد نشرها ضمن إتفاقية تعاون مع "بدايات"]